العلمنجية: الوجه السلطوي للعلمانية المشوّهة
كيف حول البعض العلمانية من إطار للحرية إلى أداة قمع
تاريخيًا، العلمانية ببلاد الشام ما انولدت كفكرة معادية للدين، ولا كانت نسخة جاهزة مستوردة من أوروبا. أيام الدولة العثمانية، يلي حكمت بلاد الشام قرون، وقبل ما تنشأ الدولة الحديثة، ما كانت المنطقة محكومة بثيوقراطية دينية، ولا بدولة بتفصل الدين عن السياسة، بل ببنية تقليدية مرنة، الدين فيها كان عنصر من عناصر الشرعية الرمزية، مو أداة حكم يومي. التحوّل بلّش مع إصلاحات القرن 19، لما فاتت مفاهيم متل المواطنة القانونية، وتوحيد القضاء، والإدارة المركزية، وبلّشت علمنة الدولة كإجراء إداري وتنظيمي، مو كصراع فلسفي مع الإيمان. هالمسار كملتو النهضة البيروتية والدمشقية، لما انطرحت أفكار الدولة المدنية، والتعليم، واللغة، والهوية الجامعة، كوسيلة لتجاوز الانقسام الطائفي، مو لإلغائو بالقوة. بهالسياق، العلمانية الشامية المبكرة كانت أقرب لآلية تعايش، مو لمشروع قطيعة مع الدين أو المجتمع.
بس هالمسار ما كمل، وانكسر مع دخول الأيديولوجيات المغلقة، وعلى رأسها الشيوعية بصيغتها المتأثرة بالنموذج السوفيتي. المشكلة ما كانت بالنقد الاجتماعي ولا بالسعي للعدالة، بل بالطريقة يلي انتقلت فيها الأفكار الماركسية للسياق المحلي. بالتجربة السوفيتية، ما كان الدين ينشاف كظاهرة اجتماعية قابلة للتحليل، بل كعائق تاريخي لازم ينشال، وأحيانًا كعدو مباشر. ولما بعض النخب اليسارية ببلاد الشام تبنّت هالنموذج، ما حاولت تكيّفو بعمق مع المجتمع، بل استوردتو بنسختو الصدامية الجاهزة، فانتقل النقد من مستوى التحليل لمستوى الإلغاء. ومع إنو التجربة اليسارية السورية ما كانت وحدة ولا متجانسة، وما كانت دايماً معادية للدين، بس الخطاب النخبوي المتأثر بالإلحاد الأيديولوجي ترك أثر عميق بالمجال العام، وأسّس لفهم للعلمانية كأنها نفي للدين، مو حياد عنو.
التحوّل الأخطر ما وقف هون، بل صار لما الدولة التقطت هالإرث الأيديولوجي وأعادت توظيفو بشكل سلطوي. مع وصول حافظ الأسد للسلطة، دخلت سوريا مرحلة فينا نوصفها بلا مبالغة بمرحلة العلمنجية السلطوية. بهالمرحلة، العلمانية ما عادت مبدأ بينظّم العلاقة بين الدولة والدين، بل صارت قناع سياسي لتبرير الاستبداد وإدارة الخوف. النظام ما فصل الدين عن الدولة، بل أخضعو إلها، وأعاد تشكيل الحقل الديني بما يضمن ولائو، وبنفس الوقت كان رافع شعار "الدولة العلمانية" بوجه المجتمع.
النظام اشتغل بشكل ممنهج على تسويق حالو، داخلياً وخارجياً، كـ"حامي الأقليات" بوجه "الإرهاب الاخونجي". هالخطاب ما كان بس دعاية، بل سياسة كاملة، بتقوم على شيطنة الإسلام السني، وربط أي تعبير ديني مستقل بالخطر الأمني للارهاب والاخوان المسلمين، وتقديم السلطة كالسدّ الأخير بوجه الفوضى. هون وصلت العلمنجية لذروتها: علمانية ما بتحمي الحرية، بل بتحمي السلطة؛ ما بتحمي التعدد، بل بتستخدمو؛ وما بتحارب الطائفية، بل بتديرها وبتعيد إنتاجها تحت الطاولة، وبتجرّمها بالخطاب العلني.
هون بالضبط بتنكشف ازدواجية المعايير بأوضح صورها. العلمنجي يلي كان بيبرّر قصف المدن، وسحق المجتمع، واعتقال الناس، باسم "الدفاع عن الدولة"، هو نفسو اليوم يلي بيصرخ ضد أي مظهر ديني وبيشوفو تهديد وجودي. العلمنجية هون ما بتوقف ضد الاستبداد، بل بتتماهى معو؛ ما بتنتقد القمع، بل بتعيد صياغتو بلغة حداثية؛ ما بتدافع عن حقوق الإنسان، بل بتحصرها بفئة، وبتستثني منها أغلبية كاملة باسم الخوف. وهيك بيصير الهجوم على الإسلام السني مو موقف فكري، بل أداة سياسية لتبرير العنف، وإعادة إنتاج منطق “نحن أو الفوضى”.
النتيجة الطبيعية لهالمسار إنو العلمانية بتنفهم اليوم بالوعي الشعبي كحرب على الدين، مو كضمان للحرية. مو لأنو المجتمع رافض الدولة المدنية، بل لأنو يلي اتقدّم ألو باسم العلمانية كان بالحقيقة علمنجية قمعية، ربطت هالمفهوم بالاستبداد، وبإقصاء المجتمع، وبتشيطن دينو. وهون في مسؤولية مزدوجة: مسؤولية النظام البائد يلي شوّه المفهوم، ومسؤولية النخب يلي ورثت هالخطاب وكملت بالدفاع عنو، حتى بعد ما سقطت كل ادعاءاتو الأخلاقية.
التمييز بين العلمانية والعلمنجية مو مجرد لعبة لغوية، بل شرط أساسي لأي نقاش جدي عن مستقبل سوريا. العلمانية يلي بتحمي حق الإنسان بيؤمن أو لأ، وما فيها تقوم على كراهية دين، ولا على تخويف مجتمع، ولا على تبرير الاقصاء. حسب المبدأ التامن لحركة الأمة السورية: "دولة الأمة السورية علمانية ديمقراطية، تؤمن بالحرية والمساواة وحقوق الإنسان. وتكفل لجميع مواطنيها حقوقاً وواجبات يصونها الدستور، ولا يتم التمييز بينهم شريطة انتماء الفرد للهوية السورية". أما العلمنجية، فهي بجوهرها وجه تاني للسلطوية، مهما لبست أقنعة حداثية. وطالما هالإرث ما تفكك، وما انعاد وصل العلمانية بجذورها كإطار للحرية والعدالة والتعايش، رح تضل بالمخيال العام أداة صدام، مو مشروع تحرري، وتضل تُستخدم مو لبناء دولة، بل لمحاربة الدين.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق