جذور علاقة العلويين بالجبال
مراجعة السردية حول علاقة الأقليات بالعثمانيين وتحوّلات القرن التاسع عشر
هاد المقال ما بيهدف للدفاع عن حقبة ولا مهاجمتها، وإنما تسليط الضو على واقع بتخلينا نعيد النظر بالرواية، وندور بجذورها قبل ما تتقارن بالوقائع. لأنو الفهم ما بيبلش بالاستنتاجات، وإنما بالسؤال: من وين إجت هي الصورة؟ وليش ترسّخت تحديدًا بالوعي السوري؟ وكيف بتداخل فيها التاريخ مع السياسة والجغرافيا؟
بتبلش الحكاية من الرواية الشائعة بأنّو العثمانيين مارسوا تمييز مذهبي ضد الأقليات، وأنّو العلويين كانوا ضحايا هاد التمييز، وأنّو وجودهن بالجبال ما كان اختيار بل هرب من بطش السلطة. هي الرواية، رغم انتشارها، بتحتاج لتفكيك تدريجي بهدوء. فالتاريخ الأقدم بيخبرنا أنّو وجود العلويين في جبال الساحل بيرجع للقرن التاسع والعاشر الميلاديين، وقت انتقلت الجماعات النصيرية من العراق لشمال سوريا، يعني قبل قيام الدولة العثمانية بقرون طويلة. وهاد الشي وحدو كافي لفتح الباب قدام سؤال مهم: ليش اختارت جماعة دينية أنو تستقر بالجبال من هداك الوقت؟
هون بتتضح وظيفة الجغرافيا بتاريخ الديانات الباطنية. فالجماعات اللي بتشيل عقائد سرّية أو تأويلية أو باطنية متل العلويين والإسماعيلية والدروز غالباً ما بتميل للعيش بالمناطق الوعرة. والجبال مو مجرد ملجأ؛ هي فضاء اجتماعي بيسمح لهي الجماعات أنو تحافظ على تقاليدها وتعاليمها بعيد عن سلطة المدن وعيون الفقهاء، ويعطيها نوع من الحماية الطبيعية. فالمذهب الباطني بطبيعتو بيقوم على علاقة بين المعلّم والمريد، وعلى دوائر ضيقة من المعرفة الداخلية، وهاد بيتطلّب بيئة مستقلة نسبيًا. لهيك شفنا الإسماعيلية عم تتحصن بمصياف وسلسلة الحصون الجبلية، والدروز عم ينتشروا بجبل لبنان بعدها بجبل حوران، والعلويين عم يستقروا بجبال الساحل.
هي الظاهرة مو “هرب دائم من الاضطهاد”، وإنما نمط اجتماعي ديني متكرر عبر التاريخ. فالمجتمعات الباطنية غالباً ما بتتجنب الاندماج الكامل بالمدينة لأنها ما بتملك مؤسسات دينية علنية، ولأنّو عقيدتها بتعتمد على قدر من السرّية. لهيك بتصير الجبال خيار منطقي بتتوفر العزلة بدون انقطاع التواصل مع بقية العالم، وبتحمي الجماعة من تدخلات السلطة المتكررة، وبتمنحها بالوقت نفسو مساحة للتنظيم الذاتي.
ووقت وصلت الدولة العثمانية لبلاد الشام بالقرن 16، شافت هاد الواقع قائم يعني جماعات جبلية متجذرة، بنى اجتماعية مستقلة، وطرق صعبة بتعيق بسط السلطة. وهون بتبلش نقطة الالتباس. لأنو الدولة العثمانية تعاملت مع جبال الساحل بالمنطق نفسو اللي تعاملت فيه مع جبال لبنان وجبال الأكراد والبوادي العربية منطق المركز والأطراف. أي أنّو التوترات اللي صارت ما كانت بدافع مذهبي موجّه ضد طائفة معينة، وإنما بدافع سياسي واقتصادي، لأنّو الدولة كانت بتعاني تاريخياً مع المناطق اللي عم تستعصب عليها إخضاعها بشكل إداري وجبائي، واللي بتميل لتشكيل زعامات محلية قوية. لهيك منشوف حملات عثمانية ضد الدروز، وضد القبائل البدوية، وضد بعض الأكراد، مشابهة تماماً باللي صار بمناطق العلويين.
بهاد المعنى، ما كان العثمانيين يشوفوا العلويين “خصم مذهبي”، وإنما جزء من “المشكلة الجبلية” اللي عانت منها كل الإمبراطوريات. وهاد بيفسّر غياب أي سياسة عثمانية رسمية بتستهدف العلويين كطائفة، وغياب أي خطاب فقهي أو إداري بيصنفهن كأعداء دينيين للدولة. على العكس، كانت الدولة في معظم الفترات بتفضل التفاهم مع الزعامات المحلية، ما دام هاد الشي بيضمن الهدوء وجباية الضرائب.
بس هي الصورة بلشت تتغيّر بشكل جذري بالقرن 19. فالإصلاحات العثمانية اللي سعت لخلق مساواة قانونية بين الرعايا، هزّت التوازنات التقليدية، ودفعت القوى الأوروبية خصوصاً فرنسا وروسيا وبريطانيا للتدخل تحت شعار “حماية الأقليات”. وشوي شوي بلش تفسير أي صراع محلي، أو نزاع على النفوذ، أو تفاوت اقتصادي، بلغة دينية - طائفية. ومع أحداث جبل لبنان ودمشق سنة 1860، ولدت الطائفية السياسية الحديثة بكل معناها: طوائف بتعرّف عن حالها سياسيًا، وبتطالب بحقوقها بوصفها جماعة منفصلة.
هي الطائفية ما كانت امتداد طبيعي للعهد العثماني، وإنما نتاج مباشر للقرن 19 بكل تعقيداتو. ومع سقوط الدولة العثمانية ودخول المنطقة تحت الانتداب، رجعت القوى الاستعمارية كتابة التاريخ بنبرة بتشدّد على “الظلام العثماني”، لتبرر حكمها بوصفو “نهاية حقبة الاضطهاد”. بعدها إجت الأنظمة القومية العسكرية في سوريا وغيرها، وكملت هي الرواية وأضافتلها. لحتى تبني شرعية جديدة، كان لازم تصور الماضي العثماني على أنّو زمن القهر الطائفي، وأنّو الأقليات بما فيهن العلويين ما لاقو مكانتهن إلا في ظل الدولة الوطنية الحديثة.
بس وقت نقارن هي السرديات بالوثائق والدراسات المعاصرة، بتظهر صورة مختلفة: أنّو وجود العلويين في الجبال قديم، وأنّو الجبال كانت خيار اجتماعي مذهبي أكتر ما يكون هرب من اضطهاد؛ وأنّو العثمانيين تعاملوا مع هي المناطق وفق منطق سياسي مشابه تمام لتعاملهن مع سائر الأطراف، مو حسب منطق طائفي بيستهدف جماعة بعينها؛ وأنّو الطائفية اللي منعرفها اليوم ما تبلورت إلا في القرن 19 ضمن سياقات محلية ودولية شديدة التعقيد.
بالمحصلة، الشي اللي بينحكى اليوم عن "اضطهاد عثماني طائفي للعلويين" هو خلاصة قرنين من التأويلات السياسية، أكتر ما يكون ترجمة دقيقة للي صار بالقرون العثمانية نفسها، فالعهد العثماني رغم عيوبو وظلمو واستبدادو وخاصة ببعض مراحلو، ما كان دولة مذهبية موجّهة ضد طائفة بعينها. أما الطائفية اللي منخشى آثارها اليوم، فهي ظاهرة حديثة تشكّلت بفعل التدخل الأوروبي بعدها تم إعادة إنتاجها من طرف الأنظمة القومية العربية. والرجعة لهاد الفهم مو مسألة تاريخية بس، وإنما خطوة ضرورية لفهم حاضرنا، ولإعادة قراءة علاقة السوريين بتاريخهن بعيد عن الروايات اللي انصنعت لأغراض سياسية لسى عم تلقي بظلالها على الوعي العام.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق